ليلة الالتحاق بالملأ الأعلى
ليلة الالتحاق بالملأ الأعلى
اعتادت الحوزة والمتشرعة الذهاب الى كربلاء ليلة الجمعة لزيارة مرقد الإمام ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) لما فيها من الفضل العظيم وكُنا ممن وفقهم الله تبارك وتعالى لهذا الالتزام الشريف فذهبنا كعادتنا عصر الخميس (2 ذ.ق 1419) المصادف (18/2/1999).
وعلى مشارف مدينة النجف وجدنا طوقاً من المدفعية الثقيلة قد احاط بالمدينة المقدسة متخفياً وراء السواتر الترابية وقد وجهت فوهات المدافع نحو المدينة وطلائع من الآليات والجنود التي تنبئ على وجود قطعات عسكرية في عمق الصحراء فرابنا الموقف وسألنا عن ذلك فقيل: انها ربما كانت احتياطات عسكرية لان العراق كان يومئذ في ازمة مع الولايات المتحدة وبريطانيا فيخشون من حصول غارات على المدن العراقية، لكننا رددنا عليهم: لو كان الأمر كذلك لكانت فوهات المدافع متجهة الى حيث تأتي الطائرات المغيرة دفاعاً عن المدينة وليست موجهة الى نفس المدينة فانقطع الجواب وعدنا ليلاً الى النجف.
وفي صبيحة اليوم التالي الجمعة (3 ذ.ق) ذهبنا الى مكتب السيد الشهيد (قدس سره) الذي كان مقابل الصحن الشريف من جهة باب القبلة وكنت اجلس يومياً في غرفة خاصة مقابل الغرفة التي اتخذها السيد نفسه للاجابة عن اسئلة الناس وقضاء حوائجهم بعد ان اتسعت مرجعيته (قدس سره) في الاشهر الأخيرة وازداد زحام الناس فلم يبق له وقت لهذه المسؤولية فحولها عليّ وبقي هو (قدس سره) لادارة الأمور العامة.
وقد شهدنا مدينة النجف على غير العادة فالقوات العسكرية منتشرة في كل مكان والأجواء مكهربة وتساءلنا مرة أخرى عن سر ذلك فقيل ان اليوم (19/2) وهو اليوم الذي تحتفل به المدينة رسمياً كيوم للمحافظة، لكننا قلنا ان هذه المناسبة ليست جديدة ولم يكن يحتفل بها بهذه المظاهر من قبل.
وفي كل يوم كنا نبقى في مجلسنا العام في المكتب حتى يرتفع آذان الظهر فندخل مع السيد الشهيد (قدس سره) الى الحرم الشريف لنؤدي صلاة الظهر جماعة الا يوم الجمعة فنغادر المكان قبل الظهر بأكثر من ساعة للذهاب الى مسجد الكوفة المعظم لاداء صلاة الجمعة المباركة المقدسة بإمامة السيد الشهيد (قدس سره) حيث كان يحجز مكان خلف الإمام مباشرة لاعضاء المكتب فان اغلب الصفوف المتقدمة تشغل من وقت مبكر منذ الفجر.
وذهبنا الى المسجد المعظم وكالعادة كانت النجف تموج بالمؤمنين الذين يقدمون من كل مدن العراق فيحجزون اماكنهم في صلاة الجمعة بفراش ونحوه ثم يأتون لزيارة امير المؤمنين ومرجعهم الشهيد ثم يعودون الى الصلاة المباركة وكذلك السيد نفسه (قدس سره) يذهب الى المسجد قبل الآذان ويبقى في محراب أمير المؤمنين (عليه السلام) يتعبد ويتأمل ويتهيأ حتى ينتهي المؤذن من آذانه فيأتي الى محراب صلاة الجمعة حيث يخلع عبائته ويرتدي البردة البيضاء التي تشبه احدى قطع الكفن ويتقدم الى المنصة المواجهة لجمهور المصلين ليلقي خطبتي الصلاة.
وكنت هذه المرة في الصف الأول الى يمين الامام فيمر طريقه بين محراب امير المؤمنين (عليه السلام) ومحراب صلاة الجمعة عليَّ فسلّم سلامه العام اثناء مروره واحاطني بسلام خاص بعينيه شعرت منه بمعنى خاص لم افهمه.
لكني فهمت معناه بعد ساعات فقد كان سلام تحميل للمسؤولية الثقيلة وسلام وداع رغم ان فرص اللقاء به يُفترض ان تكون ما زالت موجودة قبل ساعة استشهاده فقد كان يجلس مجلساً ليلياً عاماً يوم الجمعة بعد صلاة المغرب والعشاء وكنت احضر في المكتب لاداء وظيفتي التي ذكرتها قبل قليل الا انني لم اذهب في تلك الليلة لمانع، فقد جرحت يدي اثناء ادائي لبعض الاعمال البيتية قبيل المغرب ولم ينقطع الدم حتى اجدد الوضوء حتى صار الآذان فلم اذهب لصلاة الجماعة في مسجد الكرامة الذي كنت اقيم الجماعة فيه منذ عام (1416) ومن ثم لم اذهب الى المكتب في تلك الليلة فشاء الله لذلك الجرح البسيط ان يمنع من حصول امرٍ الله يعلمه.
وبعد المغرب بساعتين وعند عودته (قدس سره) الى داره حصل الاعتداء الاثيم عليه قريباً من داره في مكان لا يبعد كثيراً عن بناية مدرسة البغدادي التي هي مقر دراسة طلبة جامعة الصدر الدينية فوصل اليهم الخبر مباشرة حيث سمعوا اطلاق الرصاص فاسرع اليّ اثنان هما الشيخ نديم الساعدي معاون العميد لشؤون الطلبة والشيخ علي خليفة من طلبة المرحلة الثانية يومئذ وقالوا ان الناس تتحدث عن عملية اغتيال للسيد (قدس سره) والاخبار متضاربة عن حالته فاسرعت الى الهاتف لاتصل ببيت اولاد السيد (قدس سره) السيد مصطفى والسيد مؤمل (رحمهما الله تعالى) فلم اجد من يرد على الهاتف لان اولاد السيد (قدس سره) وعوائلهم يجتمعون في بيته (قدس سره) حتى الليل يوم الجمعة فذهبت فوراً الى بيت الشيخ حيدر اليعقوبي لاستطلع منه فوجدت الاخبار المتضاربة لكني علمت منه ان السيد (قدس سره) الآن هو في المستشفى الرئيسي في البلد فذهبت فوراُ الى هناك وكانت مطوقة برجال الأمن والباب موصدة بوجه المئات من طلبة العلم والمؤمنين الذين هرعوا الى المستشفى لاستطلاع الخبر واقتربت من الضابط المشرف على الباب وعرفته نفسي وطلبت الدخول فاستمهلني حتى يراجع المقدم فلان الذي كان مشرفاً على القوة الموجودة في المستشفى فاذن لي شرط تخلّي الناس عن الزحام على الباب وتفرقهم عنها فالتمست منهم ذلك فاستجابوا لي على ان اعود لهم بالخبر الصحيح وكانوا يتوسلون الى الله تعالى بالادعية المأثورة للاطمئنان على سلامة السيد (قدس سره) ودخلت الى جناح الطوارئ وكان هناك السيد مقتدى والسيد سلطان كلانتر صهر السيد (قدس سره) وآخرين من اعضاء المكتب وحاولت الدخول الى غرفة العمليات للتأكد من حالة السيد (قدس سره) فمنعوني لكن الوضع كان يشير الى انتهاء كل شيء فان السيد (قدس سره) وولده السيد مؤمل قضيا نحبهما فوراً اما السيد مصطفى فقد بقي يعاني النزعات الأخيرة ورأيت على يديه بعدئذ اثر (الكانيولا) التي تشد في عضد المريض ليزرق فيها العلاج فانسحب السيد مقتدى وعدد من الاخوة الموجودين الى الدار ليكون قريباً من والدته المفجوعة وبقينا نحن في المستشفى حتى استدعينا الى غرفة الطبيب لاملاء المعلومات عن الشهداء التي تأخذ عادة حين تنظيم شهادة الوفاة كل هذا ونحن لا نريد ان نصدق بالوفاة ونمني انفسنا بالسلامة وان الله قادر على كل شيء.
ولم اكن استطيع ان اخرج الى الناس الذين ينتظروني في الخارج لاني لا ادري ماذا اقول واما السيد مقتدى فخرج صامتاً غير ان الشيخ علي البهادلي (المشرف على شؤون العشائر) اشار لهم بما يفهم منه وقوع الحادث الاثيم، وبقينا اكثر من ثلاث ساعات على هذا الحال: نحن واجمون صامتون في المستشفى وممنوعون عن الوصول الى الاجساد المضرجة بالدماء والمخلصون خارج الباب ترتفع اصواتهم بدعاء الفرج وتردد آية (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) وقد اغلقت الشوارع العامة ومنع التجوال وكنّا لا نرى ولا نسمع في الشارع الا اصوات صفير السيارات العسكرية من جيش وشرطة وقوات الامن والامن الخاص التي كانت تترى طول الوقت على النجف من اتجاه بغداد.
وأُجِّل اعلان الخبر رسمياً احتياطاً حتى تتكامل قواتهم وفي الساعة الحادية عشر ليلاً استدعي جماعة منا (السيد حسين كلانتر والشيخ محمد النعماني) الى بناية المحافظة وحاول المسؤولون الايحاء بخبر الوفاة والطلب منهم السيطرة على المشاعر لكنهم لم يطمأنوا الى قدرتهم على اداء هذا الدور فاجلوا اعلامهم صريحاً بالخبر وطلبوا منهم احضار احد كبار رجال الحوزة الى هناك لكي يتحمل مسؤولية تسلم الاجساد الثلاثة فحاول البعض الاتصال بالسيد محمد كلانتر والسيد حسين بحر العلوم (رحمهما الله) فرفضا فحاولوا مع السيد علي البغدادي الذي كان قد تصالح قبل ايام مع السيد (قدس سره) فلم يفتح لهم الباب وكلمهم من وراء الشبابيك فضلاً عن الاستجابة لطلبهم ففشلت المحاولات.
وصارت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل الشتوي الطويل واعيد استدعاء مجموعة منا مرة اخرى الى مبنى المحافظة حيث كان يتجمع كبار المسؤولين الرسميين متحسبين لاي طارئ وقد اخبروهم هذه المرة صريحاً بنبأ استشهاد الثلاثة واشترطوا علينا تفريق الناس قبل تسليم اجساد الشهداء فقررنا ان اخرج واقنع الناس بذلك ثم نعود لتسلم الشهداء.
والى الان لم اصدق كيف تمالكت نفسي -وانا ذو العواطف الجياشة- فلم تذرف عيني ولم يتلعثم صوتي وانا اخرج الى الناس في الساعة الواحدة والنصف من تلك الليلة من ليالي الشتاء القارس المهيئة للمطر بين لحظة واخرى واطلب منهم التفرق والعودة صباحاً ليعلموا حالة السيد (قدس سره) ونجليه ولم أصرح بالنبأ رغم اصرار البعض وركبت السيارة عائداً الى البيت ووفرّوا هم للناس سيارات لنقلهم فقد كانت الشوارع مطوقة ولا احد يستطيع المرور فيها الا السيارات الرسمية بل ان سيارة النقل الكبيرة التي نقلت طلبة الحوزة اعتقلت قرب الصحن الشريف واقتديوا الى مديرية الامن ولم يطلق سراحهم الا بعد حصول القناعة بان الدولة هي التي امرت بنقلهم من المستشفى الى قرب الصحن الشريف ليعودوا الى مدارسهم الدينية، وهو ما حدثني به أحدهم وهو الشيخ علي حميد الذي كان يومئذٍ مديراً لمكتب السيد الشهيد (قدس سره) ويساعده الشيخ علي صادق.
وما ان ابتعدت عن المستشفى مسافة حتى اطلقت العنان للعواطف والآلام التي كانت حبيسة في صدري فاجهشت بالبكاء الحار وبصوت مرتفع ولم اكن قد اخبرت من معي بالسيارة بالخبر فشاركوني البكاء حتى وصلت الى البيت حيث مكثت اقل من ساعة وعدت بعدها الى المستشفى وكان هناك ايضاً مجموعة من الطلبة فحملنا الاجساد الطاهرة في سيارة مكشوفة وركبنا في ثلاث سيارات شخصية وترافقنا حوالي اربعين سيارة ما بين صغيرة وكبيرة تحمل القوات المدججة بالسلاح وذهبنا في موكب صامت حزين الى المغتسل وقد أذن ولده السيد مقتدى بأن أتولى انا الصلاة على الاجساد الطاهرة والاشراف على باقي التكاليف الشرعية وبقي هو وعدد آخر في الدار، حيث باشر مجموعة من الطلبة على رأسهم السيد محمد الصافي مباشرة الغسل ولم يسمح لاحد من المنافقين من الدخول الى المغتسل فبقوا خارجه لكنهم قلقون من مرور الزمن اذ كانت الاوامر موجهة اليهم من قبل السلطات باتمام الدفن قبل حلول الفجر لكن الغسل تأخر بسبب نزف الدماء التي لم تنقطع من جسد السيد (قدس سره) ورأسه وكانت الاصابة في جبهته قاضية وقاسية ويبدو انه اصيب بوابل من الرصاص وجِّه الى جبهته حيث خرج الرصاص من مؤخره تاركاً حفرة عميقة تدخل منها قبضة اليد وقد انتزعت معها اكثر اجزاء رأسه حيث كان رأسه الشريف ككيس من الهواء تستطيع ان تضغطه كيف تشاء وليس جمجمة عظمية ورصاصات اخرى على بدنه الشريف وكان جسد السيد مؤمل (رحمه الله) غارقاً بالدماء ايضاً ويبدو وقد جفّ جسمه من الدماء ولم يمكن تكفينهم والحالة هذه فلّفت اجسادهم بقطع نايلون كبيرة وكفنوا عليها بعد ان ملأت جروحهم بالقطن لكنها لم تنفع في قطع الدم.
ويشهد الله بدون مجاملة ولا عاطفة ان وجه السيد (قدس سره) كان يشرق نوراً وكأنه حي، وقد استمرت عملية التغسيل حتى حان موعد صلاة الصبح فصلينا في المغتسل في حين كان اولئك المنافقون على اشد من الجمر ويلحون علينا بين وقت وآخر بضرورة التعجيل حيث علمت بعدئذ من بعضهم ان قصي صدام كان على خط هاتفي مفتوح يتابع معهم التطورات وكان يأمرهم بالاستعجال وانهاء الأمر تحت جنح الظلام وبعد انتهاء الغسل حملنا الاجساد الثلاثة الى الصحن الشريف ووضعت في الرواق في نفس المكان الذي كان يقيم فيه السيد (قدس سره) صلاة الجماعة ولم نطف بها حول الضريح المطهر تنفيذاً لرغبته (قدس سره) التي سمعتها منه (قدس سره) فقد كان يستشكل (معنوياً) من هذا الفعل -أي اطافة الجنائز حول الضريح المقدس- ويقول كيف بي لو مِتُّ ولا استطيع منع من يطوف بجسدي على الضريح وتقدمت للصلاة عليه باذن ولي الفقيد وصلى خلفي بحدود خمسة عشر من اخواني الطلبة في حين كان بعض المنافقين ينظرون الينا وبقي الآخرون منهم خارجاً.
وبعد اتمام الصلاة حملناهم الى المقبرة الجديدة في النجف حيث كان (قدس سره) قد اشترى ارضاً هناك لتكون مدفناً له ولذويه وبدأنا بدفن الجسد الطاهر للسيد (قدس سره) واهلنا عليه التراب ونحن لا نتصور كيف يمكن ان يضم قبر هذا الرجل الذي ارعب اعتى الطواغيت واشرسهم ولا زلت اتذكر -وكيف انسى- آخر نظرة القيتها عليه (قدس سره) وهو يفترش التراب في لحده مستقبل القبلة على جانبه الايمن، وقد نزل في لحده المرحوم الشهيد الشيخ علي الكعبي إمام جمعة مدينة الثورة في بغداد الذي قدم الى النجف فور سماعه الخبر فنال شرف المشاركة وكـان معنــا المرحــوم الشهيد الشيخ حسين المالكي -الذي كان ملتفتاً الى بعض السنن الشرعية في مثل هذا الحال- والمرحوم الشهيد الشيخ محمد النعماني والسيد سلطان والسيد حسين ابنا السيد محمد كلانتر والشيخ عباس الربيعي والشيخ علي البهادلي وآخرون لا استحضر اسماءهم.
وبدأت السماء تمطر مطراً منهمراً وكأنها تشاركنا المصاب وتذرف معنا الدموع وطلبت من السيد محمد الصافي ان ينشدنا -وهو صاحب الصوت الشجي- ابياتاً في رثاء الحسين (عليه السلام) ونحن نهيل التراب فانشد -ونعم ما انشد- عينية الجواهري:
شممت ثراك فهب النسيم
نسيم الكرامة مــن بلقــــع
والكل يبكي والبعض يأخذ من تراب القبر ويدخره لقضاء حوائجه بما فيهم بعض الضباط والجنود الذين كانوا شاهرين اسلحتهم على رؤوسنا وقبل ان نواري جسدي الشهيدين السيد مصطفى ومؤمل (رحمهما الله) انسحب محافظ النجف ليزف بشرى!! انتهاء عملية الدفن بسلام !! الى سيده قصي ثم ووري الجميع الثرى وشمس يوم السبت ازفت على الشروق لتنهي اعظم ليلة عشتها وعدت الى منزلي وانا مثقل بالاحزان وارخيت لعيني حتى تفرغ ما تبقى من دموع.
ولم تكن مدينــــة النجــف بمستـوى الحدث فقــد رأيت -حين عودتي صباح السبت الى البيت- الاسواق مفتحة والاعمال جارية والحياة عادية جداً ربما لان الخبر لم يصل اليهم بعد لكن الله تبارك وتعالى شاء ان لا يمر الحدث هكذا بل ان يعيش المجتمع والمدينة واقع المصاب الاليم فقد اقام السيد مقتدى صلاة الظهر والعصر جماعة في مكان ابيه -والاوضاع ما زالت طبيعية- فانطلقت صيحات الصلوات على النبي وآله من الموالين واختلطت بدموع وانين المفجوعين بالسيد الشهيد وارتفعت الاصوات فقام الضابط المشرف على امن الصحن الشريف بتصرفٍ عوقب عليه فيما بعد حيث امر باغلاق ابواب الصحن الشريف عدا واحدة فحصل ارباك لدى الزائرين وفرارهم وما إن خرج جمع الفارين الى خارج الصحن حتى حصل ارباك واختلال الوضع في الشوارع والاسواق المحيطة فاغلقت الاسواق وفر الناس -الذين هم اصلاً على وجل- باتجاه خارج المدينة وكلما مر جمع الفارين بمنطقة او سوق او شارع انضم هؤلاء اليهم حتى وصلت مسيرتهم على مسافة عدة كيلو مترات وهكذا ساد الوجوم والصمت الحذر والاجواء المكهربة ممتزجة مع مشاعر الحزن والاسى باستشهاد السيد (قدس سره) الذي علقت الجماهير به آمالها فذهبت ادراج الرياح وانضم اليها الشعور بالندم على التقصير في نصرته فضلاً عن معاداته والوقوف في وجهه وتشويه صورته وها هو يسقط مضرجاً بدمائه في سبيل الدين والمذهب واداء وظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
واجتماع هذه العوامل جعل مجلس العزاء الذي اقيم في مسجد صافي الصفا مما قل نظيره فقد امتدت صفوف المستقبلين من المسجد الى الصحن الشريف وهي مسافة مئات الامتار فضلاً عن المسجد والسرادقات التي اقيمت بجنبه هذا ومدينة النجف مطوقة بالجيش لا يستطيع احدٌ ان يدخل اليها الا اذا ثبت انه من ساكنيها فعاشت المدينة حصاراً كاملاً لمدة تزيد على اسبوعين ومنع كل من وفد الى النجف لحضور المجلس بما فيهم بعض اقربائه (قدس سره) الا الوفود الرسمية او من حصل على اذن خاص من الجهات المختصة.
وكان من المقرر ان يستمر المجلس عشرة ايام الا ان السلطة قلصته الى خمسة ثم الى ثلاثة مما اوجب امتعاضاً لدى ذوي الفقيد فقرروا الغاء مجلس قراءة الفاتحة في اليوم الثاني لكن السلطة اجبرتهم على الاستمر باعتبار ان وفداً يمثل صداماً سيأتي يتقدمهم نائبه لرئاسة الوزراء محمد حمزة الزبيدي فاعيد انعقاد المجلس وختم عند غروب شمس اليوم الثالث ولم يستمر الى الليل.
وفي اول ايام المجلس (السبت) اجمعوا على تقديمي لامامة الصلاة جماعة ورفضت اولاً لعدم رغبتي في تسليط الاضواء عليَ الا انني استجبت لاصرارهم، وكان الخطيب الذي ختم المجلس بمحاضرة دينية هو السيد محمد الصافي الذي الهب عواطف الحاضرين وكانت الجماهير تنتظر لحظة اعتلائه المنبر حتى تطلق زفراتها واناتها واصواتها المرتفعة بالبكاء يحفزهم في ذلك صوته الشجي وطريقته الحزينة.
وقد سجل الدكتور علي حسن الشمري المختص بامراض الباطنية والقلبية مشاهداته للحظات الاخيرة من حياة السيد الشهيد (قدس سره) وولديه وهو من مقلديه ومحبيه وعارفي فضله حيث كان من القلائل الذين حضروها فكتب المذكرة التالية:
(هذا اليوم الجمعة المصادف (19/2/1999) يوم اسود في حياة الناس في العراق وخصوصاً شيعة محمد وآله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قتلت الايدي الاثيمة المجاهد الوطني العراقي الامامي السيد محمد صادق الصدر وابنيه الاكبر السيد مصطفى والسيد مؤمل، وكان زميلي قد قال لي بان عليّ ان اذهب الى المستشفى بدلاً منه لتأدية الواجب وعندما ذهبت وجدت قوات الامن منعت الناس من دخول المستشفى عدا الاطباء ودخلت ردهة الطوارئ وقد علمت ان هناك محاولة اغتيال تعرض لها السيد الجليل زعيم الشيعة السيد محمد الصدر وقد انصدمت عندما رأيت المنظر كان ابنه السيد مؤمل سائق والده في آخر رمق من الحياة والاطباء حوله كانهم نحل عاجزين ان يقدموا له أي شيء بعد ان نفذت الطلقات صدره الشريف وعلى السرير الآخر كان هناك السيد مصطفى كان وجهه ازرق وكان في وعي مشوش وكان يقول يا امي يا امي ثم بعد حين كان يقول يا الله يا الله قلت لزملائي اين السيد الاكبر اين السيد محمد كانت الوجوه حزينة وهمس احد طلابي قائلاً البقاء في حياتك قلت غير مصدق، هل سمعتم صدره ؟ هل فحصتموه ؟ اريد ان اراه ؟
كانت قوات الامن تحرس المكان الذي وضع فيه السيد الصدر، قلت لهم افسحوا لي لكي اراه وافقوا على مضض ودخلت الغرفة وجدت المنظر رهيب وجه السيد محمد الصدر شاحب وخالي من الدم وعندما رفعت رأسه الشريف وجدت الطلق الناري قد دخل رأسه الشريف من الخلف استرجعت وحاولت اعتناق السيد لكن الشرطي قال لي: هل انتهيت يا دكتور وعلمت انهم كانوا يخفون الخبر عن ولده السيد مقتدى الذي كان في باب الطوارئ لا يدري ماذا يعمل عدت الى السيد مؤمل الذي ضعف قلبه كثيراً ولا اكاد اسمع ضربات قلبه تعمل حاول زملائي كل شيء ولكنه فارق الحياة. كنت أأمل ان السيد مصطفى حالته احسن حيث كان تنفسه جيداً وكان قلبه يعمل بصورة جيدة ولكن النزف اخذه وعندما رأيت ظهره كان هناك منفذ الى اربع طلقات نارية وكان النزف مستمراً. يا الهي ان حالته غير مستقرة كان بحاجة الى تداخل جراحي سريع ولكن بدأت حالته تتردى وفقد الوعي نهائياً وفارق الدنيا .. يا الهي ماذا اعمل، هذا امامي وهذان ولداه قد فارقوا الدنيا، ماذا اعمل لا استطيع ان اخبر ابنه ولا حتى احد الشيوخ الذين كانوا قريباً من عندي.
وهكذا انتهت حياة السيد الجهادية وحيث انه اقام صلاة الجمعة المعطلة وكان جريئاً في خطابته وانتقد عدة مواقف كانت تقف امام الدين وانتقد عدة فئات من الشعب وكان يرجو صلاح هذه الفئات وانتقد المارقين عن الدين عدة انتقادات وكان آخر ما انتقده في هذه الجمعة رقم (45) الغجر والذين وضعوا الغجر وجاء السهم سريعاً حيث ان الغجر لم يمهلوا السيد حتى المساء وتربصوا له ووضعوا له فخاً عندما سألت احد الحاضرين اين تم قتل السيد وابنائه قال لي قرب مركز المدينة، ونحن النجفيون في تلك الليلة مستغربين من وجود التيار الكهربائي في المحافظة حيث اننا ومنذ شهر رمضان كان التيار الكهربائي عندنا بمعدل ساعتين في كل 24 ساعة وكما ان مقتل السيد حصل في وقت قريب بعد انتهاء صلاة العشاء حيث كان السيد محمد مع ابنه السيد مؤمل والسيد مصطفى وبالقرب من سكناهم في حي الحنانة كان القتلة المجرمون ينتظرون السيد والمكان أظلم وكان اللاسلكي يعمل ويخبر القتلة بأن السيد سيصل بعد قريب بسيارة ميتسوبيشي رصاصي وخلال دقائق صدر صوت الرشاش المدوي وخلال لحظات تجمعت سيارات الأمن الداخلي ومنعت الناس)، انتهى ما ذكره الدكتور علي الشمري.