تنبيه الأمة إلى تقصيرها في امتثال آية النفر إلــى الحوزات العلمية

261

تنبيه الأمة إلــى تقصيرها

في امتثال آية النفر إلــى الحوزات العلمية([1])

 

 قال تعالى: [فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة: 122).

والآية تحث المؤمنين على النفر إلى حواضر العلم ومعاهد الدراسة لتحصيل الأحكام الشرعية والمعارف الإلهية التي ترشد الأمة إلى طاعة الله تبارك وتعالى وتأخذ بأيديها نحو الكمال، وقد حددت مجموعة تنتدبهم الأمة للتفرغ إلى تحصيل العلم بأن تنفر من كل فرقة طائفة، فإذا التزمنا أن تعداد الفرقة هي بضعة آلاف واقل عدد يصدق عليه طائفة في اللغة ثلاثة، فتكون نسبة من يتخصص لتحصيل العلم في الحوزات العلمية الشريفة هو واحد بالألف وهي نسبة معقولة جداً، فإن لكل ألف إنسان يكون من الضروري أن يوجد لهم عالم ديني يوجههم ويرشدهم ويزكيهم ويطهرهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.

هذا هو مقتضى الحث الإلهي الأكيد، فكم هو تقصير الأمة في الامتثال له؟ وكم هي ظالمة لنفسها في عدم الاستجابة لهذه الدعوة الإلهية؟ حيث لا يوجد في المحافظة التي يصل تعداد سكانها مليون إنسان إلاّ خمسة أو عشرة والمفروض أن يكون فيها ألف من الدعاة إلى الله تبارك وتعالى والأدلاء على طاعته.

هذا بحسب التكليف العام ويضاف على أهل العراق خاصة تكليف إضافي ذلك بان أنظار العالم كلها متوجهة إليهم والى حوزتهم المباركة لما لها من سمو روحي وإبداع علمي، تطلب منهم العلماء والمفكرين والخطباء والكتاب، مما يجعل الحوزة العلمية في النجف الأشرف توسع من شعورها بالمسؤولية تجاه العالم كله.

هذا ما دعانا –كواحدة من الخطوات العملية لتحمل هذه المسؤولية الإلهية- إلى نشر الحوزات العلمية النظامية في محافظات القطر من خلال تأسيس فروع جامعة الصدر الدينية ذات النظام([2]) والمفردات العلمية المواكبة لتطور العلم والفكر وتجدد التحديات والآليات، وإذا كان عذر كثيرين هو عدم القدرة وتوفر الظروف للدراسة في النجف الأشرف فها هي الحوزة العلمية المباركة جاءتكم تقدم خدماتها لكم فلماذا التقصير وعدم الاستجابة؟!

أن كثيرين يتحدثون عن الخلل القيادي في المرجعية الدينية، أو سوء الإدارة وتوزيع الأموال، أو ضعف الخطاب الديني، أو تصدي حوزويين غير قادرين على التعاطي مع واقع الأمة المعقد بمشاكله وهمومه وقضاياه وآماله، وهذه الكلمات وغيرها قد تكون صحيحة بدرجة من الدرجات، وحينئذٍ يكون دور الشباب الرسالي والطليعة الواعية للأمة أن تلتحق بالحوزات العلمية وتجدّ وتجتهد في تحصيل العلوم الدينية والمعارف الإلهية والاتجاهات الفكرية حتى الوصول إلى أسنى الدرجات أعني التأهيل للمرجعية الرشيدة والقيادة الحكيمة، لتساعد على تجاوز هذا الخلل وهذا الضعف، فإن وجود العنصر النظيف الكامل القوي في أي ساحة سوف لا يبقي مجالا للعناصر الضعيفة غير القادرة على تحمل المسؤولية، وسوف تتحول الأمة إلى من هو الأفضل والأكفأ والأقدر وان طال الزمن. أما الانزواء والاكتفاء بالنقد فهذه حالة سلبية لا توصل إلى حل بل تبقي الخلل والنقص على ما هو عليه حتى يتجذر في واقع الأمة ويؤدي أمرها إلى الضياع.

وليعلم العاملون الرساليون أن مشروعهم سيلقى معارضة شديدة وحربا شعواء من الدنيويين المنتفعين بالحالة الموجودة؛ لأنهم يعلمون أن النور يطرد الظلام والحق يطرد الباطل ولا يبقى له وجود وان لم يتفوه بكلمة، لكن عطاءه الثرّ والفاعل في حياة الأمة سيسحب البساط من تحت أقدام المعسكر الآخر، وهذا الذي كان يدعو الطغاة إلى محاصرة الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) والعلماء والهداة والقضاء عليهم رغم أنهم لا يجدون عندهم جيشاً ولا سلاحاً ولا أموالاً، لكنهم يعلمون أن وجودهم المبارك الذي يفيض إشراقاً على الأمة سوف لا يبقي أحدا يلتفت إلى أولئك الفارغين العابثين المتسلطين بغير حق.

إن إصلاح حالة البلد وازدهار الأمة ورقيها لا يقوم به إلاّ أهله الذين عاشوا معاناته وفهموا قضاياه واستوعبوا آماله؛ لأنهم جزء منه فيستطيعون التفاعل مع مطالبه، وبنفس الوقت تكون الأمة قد عرفت تأريخهم وجهادهم وعملهم الدؤوب لنفع الأمة واختبرت مواصفاتهم الشخصية، وهكذا كان الأنبياء والرسل (عليهم السلام) يختارهم الله تبارك وتعالى من قومهم [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ] (الجمعة: 2)، [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] (التوبة:128).

فقد لبث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قومه أربعين سنة عرفوا فيها صدقه وأمانته وطهره ونزاهته وترفعه عن الدني من الأقوال والأفعال. فليأخذ العراقيون لأنفسهم هذا الدرس ويستوعبوه ويأخذوا بمقتضاه.

أسأل الله تعالى أن يجد ندائي هذا ودعوتي المخلصة هذه آذاناً صاغية (وتعيها إذن واعية) عند الشباب المخلصين والنخب الواعية وينهضوا بهذه المسؤولية المباركة فإنها تجارة لن تبور.

 

 

([1]) من كلمة سماحة الشيخ (دامت تأييداته) مع وفد من مثقفي ونخب ناحية الكرمة التابعة لقضاء سوق الشيوخ في الناصرية وبحضور عدد من أبناء جلولاء وأهالي الغزالية ببغداد وإدارة مستشفى الجملة العصبية في بغداد يوم السبت 14 ربيع الأول 1426، وذكر نفس المعنى في لقائه بطلبة جامعة الصدر الدينية فرع ذي قار وكربلاء يوم الخميس 19 ربيع الأول 1426. وقد نشر في الصفحة الأولى من العدد (22) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 26 ربيع الأول 1426 الموافق 5 آيار 2005.

([2])  راجع كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية) للتعرف على هوية هذه الجامعة ونظامها الداخلي.