دور الحوزة الشريفة في حياة الأمة
دور الحوزة الشريفة في حياة الأمة([1])
بسم الله الرحمن الرحيم
حينما قسم الفقهاء المسائل الفقهية إلى (عبادات) و(معاملات) وقسموا المعاملات إلى(عقود) و(إيقاعات) و(أحكام) فإنهم انطلقوا من ناحية علمية وفنية لتبويب وتصنيف مسائل الفقه حتى يسهل أخذها، فانطلقوا بتقسيمهم على أساس أن فعل المكلف إما مشروط بقصد القربة أو لا فالأول هي العبادات والثاني المعاملات وهي إما متقومة بطرفين كالبيع والنكاح أو بطرف واحد كالعتق والطلاق أو غير متقومة بأي أحد كالحدود والديات والمواريث فالأولى هي العقود والثانية هي الإيقاعات والثالثة هي الأحكام.
ولم يَدُرْ في خلد هؤلاء الفقهاء أن هذا التقسيم الفني العلمي سيتحول إلى ممارسة خاطئة وفهم ضيق لدور الشريعة في حياة الأمة، حيث رسخ هذا التقسيم في أذهان الناس أن عبادة الله تعالى ومراعاة الشريعة إنما يختص بالقسم الأول وتراهم يسألون عن تفاصيل جزئية في الوضوء والصلاة والصوم وهو شيء حسن، لكن السيئ أنهم أقصوا الشريعة عن المعاملات ولم يحكّموا دين الله فيها، ويشرعون من أنفسهم قوانين تحكم المعاملات كقوانين الأحوال الشخصية والسنينة العشائرية وسائر القوانين الوضعية الأخرى فتقوقع الدين وانحسر دوره خلافا لقوله تعالى [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] (النساء:65) فهذا التسليم المطلق وتحكيم الشريعة جار ومطلوب في كل تفاصيل الحياة([2]).
وأنا هنا لا ادعي أن هذا التقسيم هو السبب الوحيد في هذه النتيجة السيئة وإنما توجد أسباب أخرى، لكنني أريد أن أتوصل إلى فكرة أن اختيار العناوين والمصطلحات مهم؛ لأن أي خطأ فيه يسري إلى خطأ في المعنون والمضمون والتطبيق ولا يقتصر على الجهة النظرية فقط، فليس صحيحا ما يتردد في كتب الدراسة الحوزوية من قولهم (لا مشاحة في الاصطلاح) فإن عدم الدقة فيه تؤدي إلى مثل هذه النتيجة الخاطئة.
ومن هذا الشرح المختصر للفكرة و المثال عليها انطلق إلى القول بان توصيف الحوزة الشريفة بالعلمية فيقال (الحوزة العلمية) وان كان له ما يبرره باعتبار أن النشاط الأوضح فيها هو تحصيل العلوم الدينية وتعميقها والإبداع فيها ونشرها وتدوينها، إلا أن هذا الوصف رسخ في أذهان أبنائها أن وظيفتهم هو طلب العلم وتدريسه ونحوه من الشؤون، وصار الكثير من المرجعيات التقليدية وأتباعهم يردد أن وظيفتهم الدرس ونحوه وعدم التدخل في شؤون الأمة، وهو تحجيم لدورها وإفراغ لمحتواها فهي ليست كالجامعات الأكاديمية عبارة عن كيان علمي صرف، بل أن الحوزة وعلى رأسها المرجعية تمثل الكيان القيادي للأمة بما تقتضيه مسؤوليات القيادة من نشاط سياسي واجتماعي وأخلاقي وتربوي وفكري وإنساني وحتى اقتصادي.
وقد مارست القيادات الدينية الواعية والمخلصة هذه الأدوار في حياة الأمة، فعلى الصعيد السياسي تجد أن كل حركات التحرر والنهضة الحديثة قادها علماء الدين ومعلمو القرآن كعمر المختار في ليبيا والخطابي في المغرب وابن باديس وعبد القادر الجزائري في الجزائر ومحمد عبده في مصر وعبد الرحمن الكواكبي في سوريا وأمين الحسيني في فلسطين وناهيك عن القيادات الشيعية في العراق وإيران ولبنان. وعلى الصعيد الاجتماعي فإن الحوزة الشريفة تجد نفسها مسؤولة عن إصلاح ذات البين بين المتخاصمين من عشائر وأفراد والسعي للتوفيق في تزويج المؤمنين والمؤمنات ومشاركة الأمة في مناسباتها الاجتماعية وحل مشاكلها.
وأما الدور التربوي والأخلاقي والإصلاحي فإنه الدور الأوضح للفضلاء والخطباء وأئمة المساجد والجماعات في حياة الأمة، وبفضل هذا الجهد المبارك حافظت الأمة على أخلاقها وأعرافها ولم يجد الانحراف والانحلال والانهيار الخلقي الذي تعاني منه مجتمعات الغرب مكانا واسعا له في المجتمعات المتدينة، يكفي أن تعلم أن مرض الايدز الذي فتك إلى الآن بعشرين مليون إنسان لم يسجل له وجود يذكر في امتنا المحافظة.
أما على الصعيد الإنساني من باب الشاهد نقول أن المساعدات التي قدمتها المرجعية للبائسين والمحرومين ومعالجة المرضى في فترة الحصار كان لها اثر مهم في حفظ حياة هؤلاء ومصابرتهم وصيانة كرامتهم.
وأما الجهد الفكري والعلمي فإن أكثر نتاج المطابع وما تتلاقفه دور الطبع فهو من تأليف علماء الحوزة الشريفة وفضلائها ومفكريها.
وقس على هذا نشاطهم في الحقول الحيوية الأخرى.
وفي ضوء هذا يجب على طلبة الحوزات الشريفة -رجالاً ونساء- أن يستوعبوا مسؤولياتهم ووظائفهم التي يقتضيها وجودهم في هذا الكيان الشريف، وهي إن بدت واسعة وثقيلة إلا أنها تكون يسيرة مع الإخلاص لله تبارك وتعالى والهمة وقوة العزم والتعاون مع كل العاملين.
بل قد يشعر الإنسان أن سعة المسؤوليات وقوة التحدي دليل على أن إيمانه بخير وان مستواه ليس متدنياً حيث اختاره الله تبارك وتعالى لهذا الدور الكبير فهو من مواطن الشكر لله تعالى على لطفه بعبده حين اختاره لهذا الدور الشريف ووفقه لاستجابة دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (الأنفال:42)، وأنه مع هذه الثلة القليلة الصالحة التي استجابت من بين الملايين من المسلمين لقوله تعالى [فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة:122) وحظي من دون كل أولئك بما اعد الله تعالى من الكرامات لطالب العلم الذي يستغفر له من في السماوات والأرض وأن الملائكة تفرش له أجنحتها وأن حلق العلم روضة من رياض الجنة وان من ترك ورقة فيها علم نافع كانت حجابا بينه وبين النار وغيرها من الألطاف الإلهية.
ولا بد أن لا نكتفي بالشكر اللساني فإنه أدنى مراتب الشكر وإنما علينا أن نؤدي الشكر العملي بان نؤدي وظائف النعمة ونقوم باستحقاقاتها التي تقدم ذكرها مع الاعتراف بعجزنا عن شكر ولو نعمة واحدة بان كل شكر هو نعمة تستحق الشكر من جديد فأنى للإنسان أن يؤدي حق الشكر.
إنني أسمع عن البعض انه حينما تعرض عليه مسؤولية دينية معينة كإمامة الجماعة أو التدريس فإنه يرفضها ظنا منه أن ذلك تورع وحفظ للنفس من الرياء والعجب ونحوها، وهو قد يكون حسن النية وقد يكون تكليفه ذلك لكن هذا تصرف سلبي وتحقيق لمراد الشيطان بلباس الدين، فإن إبليس لا يريد أن يعبد الله تبارك وتعالى [لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ] (الأعراف:16) فحينما تنسحب من الأعمال الإيمانية فقد أعطيت لإبليس مراده ووقعت في حبائل خداعه، فإن المسجد إذا خلى من صلاة الجماعة سوف لا يقصده المصلون وتعطل شعائر الله ويفتقد الناس الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والأخ المخلص حيث يجد كل هذا المسجد.
أما التصرف الايجابي فهو تهذيب النفس وتأهيل الشخصية لممارسة هذه الوظائف ولا نكون كذاك الرجل الذي كانت زوجته تكره التدخين وعاش صراعا بين الاحتفاظ بزوجته وعادة التدخين وأخيراً قال لصاحبه لقد تركتها، قال الآخر: تقصد عادة التدخين قال الرجل: لا.. فقد تركت زوجتي، فهذا سير في الاتجاه الخاطئ في مثل هذه المنعطفات التأريخية فعليه أن يتوكل على الله ويخلص نيته ويشد عزمه ويكون ذا مصداقية فيطابق قوله عمله، وحينئذ سيكون التصدي للمسؤولية فرصة لتحقيق التكامل فإن الارتقاء في سلم التكامل يحصل من أعمال ورياضات فردية.، ويحصل بدرجة أكبر من خلال الانخراط في العمل الجماعي وأداء الوظائف الاجتماعية.
فإن المؤمن يشعر بدرجة من المسؤولية أمام ربه فيؤدي الواجبات ويتجنب المحرمات حتى في السر فإذا انخرط في سلك الحوزة الشريفة وارتدى الزي الديني فإن شعوره سيزداد وسيترك بعض التصرفات المحللة لمجرد أنها غير لائقة بوضعه الجديد، فإذا صار إماماً للجماعة فسيكون أكثر مراقبة لنفسه لأنه صار محل ثقة عدد من الناس يصلون خلفه ويعتقدون بعدالته ولا بد من مطابقة ظاهره لباطنه لكي لا يصير منافقاً، وهكذا يرتقي في السعي نحو الكمال حتى إذ بلغ المرجعية وقيادة الأمة فإنه سيكون في درجة عالية من النزاهة والعفة والطهارة لأنه يشعر بمسؤوليته عن مصير ملايين المسلمين في أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وعزتهم وكرامتهم.
إنكم حين كرستم أنفسكم لخدمة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى وحفظ مصالح الناس أصبحتم من أنصار الإمام الموعود والممهدين له فحينما يدعو الإمام (عليه السلام) كما دعى عيسى روح الله [مَنْ أَنْصَارِي إلى اللَّهِ] ستجيبون كما أجاب الحواريون [نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ] (آل عمران:52).
إن يوم ارتدائكم الزي الديني وإعلانكم اتخاذ هذا السلك منهجا لحياتكم هو أهم منعطف في حياتكم وأعظم قرار تتخذونه، وسيكافئكم الله بالحسنى لأن موقفا شجاعا يقوم به الإنسان يكون كافيا لملئ حياته بالنفحات الإلهية [وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ] (القصص:60) [وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى] (الضحى: 4) كما أني اعتقد أن بركات كثيرة نلتها في حياتي ببركة توفيق الله تعالى لي حينما رفضت خدمة النظام الصدامي المجرم ولو لحظة بعد تخرجي من الكلية عام1982م.
محمد اليعقوبي
1 ذي الحجة الحرام 1426
1/1/2006
([1]) من حديث سماحة الشيخ (دامت تأييداته) في حفل تخرج دفعة جديدة من كلية التوجيه الديني والإصلاح الاجتماعي من جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف وارتدائهم الزي الديني يوم الاثنين 1 ذي الحجة 1426 المصادف 2/1/2006 ومن حديث سماحته مع طلبة جامعة الصدر الدينية – الفرع الأول في الرصافة من بغداد في اليوم التالي ومن حديث سماحته مع طالبات جامعة الزهراء الدينية فرع البصرة يوم الخميس 26 ذي القعدة 1426 المصادف 29/12/2005.
([2]) تجد توضيحاً لهذه الإشكالية في كتاب (شكوى القرآن) وبحث (الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها) و(دليل سلوك المؤمن) في كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه).